فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقدمنا أن الإصر والأغلال استعارة لما كان في شرائعهم من الأشياء الشاقة، فمنها تحريم طبخ الجدي بلبن أمه، ومنها نظام الأعياد التي يعيدونها لله في السنة وهي عيد الفطير وعيد الحصاد وعيد المظال، وكذلك عيد كل سبت، لا يعلم فيه أدنى علم.
وكذلك سبت المزارع، ففي كل سنة سابعة سبت للأرض، لا يزرع فيها، ولا يقطف الكرم، بل تترك الأراضي عطلًا، غلت الكروم مأكلًا لفقراء شعبهم ووحوش البرية.
ومنه أن من ضرب أباه أو أمه أو شتمهما أو تمرد عليهما وعصاهما يقتل حدًا. وكذا من يعمل يوم السبت يقتل، ومن كان به جن أو تابعة يرجم بالحجارة حتى يموت، ومن تزوج فتاة فادعى أنه لم يجد لها عذرة، ثم تبين كذبه، جميعًا يقتلان، وإذا أمسكت امرأة عورة رجل تقطع يدها، وإذا نطح ثور رجلًا أو امرأة فمات المنطوح يرجم الثور ولا يؤكل لحمه، ومن اضطجع مع امرأة طمث يقطعان من شعبهم، ومن طلق امرأته ثم تزوجت آخر، وطلقها أو مات عنها، فلا يجوز لزوجها الأول أن يرجعها، وغير ذلك من الآصار التي تقدم بعضها في آخر سورة البقرة- فراجعه-.
التاسع: قال الجشمي: تدل الآية على أن شريعته صلى الله عليه وسلم أسهل الشرائع، وأنه وضع عن أمته كل ثقل كان في الأمم الماضية، وذلك نعمة عظيمة على هذا الأمة.
وتدل على وجوب تعظيم الرسول، ونصره بالجهاد، ونصرته بنصرة دينه، وكل أمر يؤدي إلى توهين ما يتصل بذلك، لأن جميع ذلك من باب النصرة.
وهذا لا يختص بعصره، فجميع ذلك لازم إلى انقضاء التكليف، ولعل الجهاد بالبيان، وإيراد الحجة، ووضع الكتب فيه، وحل شبه المخالفين، يزيد في كثير من الأوقات على الجهاد بالسيف، ولهذا قلنا: منازل العلماء في ذلك أعظم المنازل.
العاشر: قال العلامة البقاعي: لما تراسلت الآي، وطال المدى في أقاصيص موسى عليه السلام، وبيان مناقبه العظام، ومآثره الجسام، وكان ذلك ربما أوقع في بعض النفوس أنه أعلى المرسلين منصبًا، وأعظمهم رتبة، ساق سبحانه هذه الآيات هذا السياق، على هذا الوجه، الذي بين أعلاهم مراتب، وأزكاهم مناقب، الذي خص برحمته من يؤمن به من خلقه قوة أو فعلًا.
وجعل سبحانه ذلك في أثناء قصة بني إسرائيل، إهتمامًا به، وتعجيلًا له، مع ما سيذكر، مما يظهر أفضليته، ويوضح أكمليته، بقصته مع قومه، في مبدأ أمره وأوسطه ومنتهاه، وفي سورة الأنفال وبراءة بكمالها. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ}.
وتشمل الرحمة أيضًا الذين يؤمنون بآيات الله، والمعنى بها الآيات التي ستجيء في المستقبل، لأن آيات موسى قد استقر الإيمان بها يومئذ، وهذا موجب إعادة اسم الموصول في ذكر أصحاب هذه الصلة، للإشارة إلى أنهم طائفة أخرى، وهم من يكون عند بعثة محمد عليه الصلاة والسلام، ولذلك أبدل منهم قوله: {الذين يتبعون الرسولَ} إلخ.
وهو إشارة إلى اليهود والنصارى الكائنين في زمن البعثة وبعدها لقوله: {الذي يجدونه مكتوبًا عندهم} ولقوله: {ويضع عنهم إصرهم والأغلالَ التي كانت عليهم} فإنه يدل على أنهم كانوا أهل شريعة فيها شدة وحرج، والمراد بآيات الله: القرآن، لأن ألفاظه هي المخصوصة باسم الآيات، لأنها جُعلت معجزات للفصحاء عن معارضتها.
ودالة على أنها من عند الله وعلى صدق رسوله، كما تقدم في المقدمة الثامنة.
وفي هذه الآية بشارة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم وهي مشيرة إلى ما في التوراة من الإصحاح العاشر حتى الرابع عشر، والاصحاح الثامن عشر من سفر التثنية: فإن موسى بعد أن ذكَرهم بخطيئة عبادتهم العجل، وذكر مناجاته لله للدعاء لهم بالمغفرة، كما تضمنه الاصحاح التاسع من ذلك السفر، وذكرناه آنفًا في تفسير قوله: {واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا}، ثم ذكر في الإصحاح العاشر أمرهم بالتقوى بقوله: فالآن يا إسرائيل ما يطلب منكَ الرب إلا أن تتقي ربك لتسلك في طرقه وتحبه.
ثم ذكر فيه وفي الثلاثة بعده وصايا تفصيلًا للتقوى، ثم ذكر في الاصحاح الرابع عشر الزكاة فقال تعشيرًا تعشر كل محصول زرعك سنة بسنة عشر حنطتك وخمرك وزيتك وأبكار بقرك وغنمك، وفي آخر ثلاث سنين تخرج كل عشر محصولك في تلك السنة فتضعه في أبوابك فيأتي اللاوي والغريب واليتيم والأرملة الذين على أبوابك فيأكلون ويشبعون إلخ.
ثم ذكر أحكامًا كثيرة في الإصحاحات الثلاثة بعده.
ثم في الإصحاح الثامن عشر قوله: يُقيم لك الرب نبيًا ومن وسط إخواتك مثلي له تسمعون حسب كل ما طلبتُ من الرب في حُوريب أي جبل الطور حين المناجاة يوم الاجتماع قال لي الرب أقيم لهم نبيًا من وسط إخوتهم مثلك وأجعلُ كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به فدل هذا على أن هذا النبي من غير بني إسرائيل لقوله: من وسط أخوتك فإن الخطاب لبني إسرائيل، ولا يكونون إخوة لأنفسهم.
وإخوتُهم هم أبناء أخي أبيهم: إسماعيل أخي إسحاق، وهم العرب، ولو كان المراد به نبيئًا من بني إسرائيل مثل صمويل كما يؤوله اليهود لقال: من بينكم أو من وسطكم، وعُلم أن النبي رسول بشرع جديد من قوله: مثلك فإن موسى كان نبيًا رسولًا، فقد جمع القرآن ذلك كله في قوله: {للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون} إلخ.
ومن نكت القرآن الجمع في هذه الآية بين وصفي النبوة والرسالة للإشارة إلى أن اليهود بدّلوا وصف الرسول، وعبروا عنه بالنبي، ليصدق على أنبياء ليصدق على أنبياء بني إسرائيل، وغفلوا عن مفاد قوله مثلك، وحذفوا وصف الأمي، وقد كانت هذه الآية سبب إسلام الحبر العظيم الأندلسي السموأل بن يحيى اليهودي، كما حكاه عن نفسه في كتابه الذي سماه غاية المقصود في الرد على النصارى واليهود.
فهذه الرحمة العظيمة تختص بالذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى، وتشمل الرسل والأنبياء الذين أخذ الله عليهم العهد بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فكانوا عالمين ببعثته يقينًا فهم آمنوا به، وتنزلوا منزلة من اتبع ما جاء به، لأنهم استعدوا لذلك، وتشمل المسلمين من العرب وغيرهم غير بني إسرائيل، لأنهم ساروا من آمن بمحمد عليه الصلاة والسلام من اليهود في اتباع الرسول النبي الأمي.
وتقديم وصف الرسول لأنه الوصف الأخص الأهم، ولأن في تقديمه زيادة تسجيل لتحريف أهل الكتاب، حيث حذفوا هذا الوصف ليصير كلام التوراة صادقًا بمن أتى بعد موسى من أنبياء بني إسرائيل، ولأن محمدًا صلى الله عليه وسلم اتشهر بوصف النبي الأمي، فصار هذا المركب كاللقب له، فلذلك لا يغير عن شهرته، وكذلك هو حيثما ورد ذكره في القرآن.
والأمي: الذي لا يعرف الكتابة والقراءة، قيل هو منسوب إلى الأم أي هو أشبه بأمه منه بأبيه، لأن النساء في العرب ما كُنّ يعرفن القراءة والكتابة، وما تعلمْنها إلاّ في الإسلام، فصار تعلم القراءة والكتابة من شعار الحرائر دون الإماء كما قال عُبيْد الراعي، وهو إسلامي:
هُنَّ الحرائِر لا ربّاتُ أخمرَة ** سُودُ المحاجِر لا يقْرأن بالسّوَرِ

أما الرجال ففيهم من يقرأ ويكتب.
وقيل: منسوب إلى الأمّة أي الذي حاله حال معظم الأمة، أي الأمة المعهودة عندهم وهي العربية، وكانوا في الجاهلية لا يعرف منهم القراءة والكتابة إلاّ النادر منهم، ولذلك يصفهم أهلُ الكتاب بالأُمييّن، لما حكى الله تعالى عنهم في قوله: {ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأُميين سبيل} في آل عمران (75).
والأميّة وصف خص الله به من رسله محمدًا، إتمامًا للإعجاز العلمي العقلي الذي أيده الله به، فجعل الأمية وصفًا ذاتيًا له، ليتم بها وصفه الذاتي وهو الرسالة، ليظهر أن كماله النفساني كمالٌ لدُنّي إلهي، لا واسطة فيه للأسباب المتعارفة للكمالات، وبذلك كانت الأمية وصف كمال فيه، مع أنها في غيره وصف نقصان، لأنه لمّا حصل له من المعرفة وسداد العقل ما لا يحتمل الخطأ في كل نواحي معرفة الكمالات الحق، وكان على يقين من علمه، وبينة من أمره، ما هو أعظم مما حصل للمتعلمين، صارت أميته آية على كون ما حصل له إنّما هو من فيوضات إلهية.
ومعنى: {يجدونه مكتوبًا} وجدان صفاته ونعوته، التي لا يشبهه فيها غيره، فجعلت خاصته بمنزلة ذاته.
وأطلق عليها ضمير الرسول النبي الأمي مجازًا بالاستخدام، وإنما الموجود نعته ووصفه، والقرينة قوله: {مكتوبًا} فإن الذات لا تكتب، وعُدل عن التعبير بالوصف للدلالة على أنهم يجدون وصفًا لا يقبل الالتباس، وهو: كونه أميًا، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويُحل الطيبات، ويحرم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم، وشدة شريعتهم.
وذكرالإنجيل هنا لأنه منزل لِبني إسرائيل، وقد آمن به جمع منهم ومن جاء بعدهم من خلفهم، وقد أعلم الله موسى بهذا.
والمكتوب في التوراة هو ما ذكرناه آنفًا، والمكتوب في الإنجيل بشارات جمة بمحمد صلى الله عليه وسلم وفي بعضها التصريح بأنه يبعث بعثة عامة، ففي إنجيل متّى في الإصحاح الرابع والعشرين ويقوم أنبياء كذَبةٌ كثيرون ويُضلون كثيرون، ولكن الذي يصبر إلى المنتهى أي يدوم شرعه إلى نهاية العالم فهذا يخلص ويكرز ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادة لجميع الأمم ثم يأتي المنتهى أي منتهى الدنيا، وفي إنجيل يوحنا في الإصحاح الرابع عشر وإما المُعزّي الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلتُه لكم ومعنى باسمي أي بمماثلتي وهو كونه رسولًا مشرعًا لا نبيًّا موكدًا.
وتقدم ذكر التوراة والإنجيل في أول سورة آل عمران.
وجملة: {يأمرهم بالمعروف} قال أبو علي الفارسي: هي بيان للمكتوب عندهم ولا يجوز أن تكون حالًا من ضمير {يجدونه} لأن الضمير راجع للذكر والاسم.
والذكر والاسم لا يأمران أي فتعين كون الضمير مجازًا، وكون الآمر بالمعروف هو ذات الرسول لا وصفه وذِكرُه، ولا شك أن المقصود من هذه الصفات تعريفهم بها؛ لتدلهم على تعيين الرسول الأمي عند مجيئه بشريعة هذه صفاتها.
وقد جعل الله المعروف والمنكر، والطيبات، والخبائث، والإصر والأغلال متعلقات لتشريع النبي الأمي وعلامات، فوجب أن يكون المراد منها ما يتبادر من معاني ألفاظها للأفهام المستقيمة.
فالمعروفُ شامل لكل ما تقبلُه العقول والفطر السليمة، والمنكر ضده، وقد تقدم بيانهما عند قوله تعالى: {ولتْكُن منكم أمة يَدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} في سورة آل عمران (104).
ويجمعها معنى: الفطرة، التي هي قوام الشريعة المحمدية كما قال تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرت الله التي فطر الناس عليها} [الروم: 30]، وهذه أوضح علامة لتعرف أحكام الشريعة المحمدية.
والطيبات: جمع طيبة، وقد روعي في التأنيث معنى الأكِيلة، أو معنى الطُّعمة، تنبيهًا على أن المراد الطيبات من المأكولات، كما دل عليه قوله في نظائِرها نحو: {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالًا طيبًا} في البقرة (168) وقوله: {يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات} في سورة المائدة (4)، وليس المراد الأفعال الحسنة؛ لأن الأفعال عُرّفت بوصف المعروف والمنكر.
والمأكولات لا تدخل في المعروف والمنكر، إذ ليس للعقل حظ في التمييز بين مقبُولها ومرفوضها، وإنما تمتلك الناسَ فيها عوائِدُهم، ولما كان الإسلام دينَ الفطرة ولا اعتداد بالعوائد فيه، ناط حال المأكولات بالطّيب وحرمتها بالخُبث، فالطّيب ما لا ضُر فيه ولا وخامَة ولا قذارة، والخبيثُ ما أضر، أوْ كان وَخيم العاقبة، أو كان مستقذرًا لا يقبله العقلاء، كالنجاسة، وهذا ملاك المُباح والمحرم من المآكل، فلا تدخل العادات إلاّ في اختيار أهلها ما شاءوا من المباح، فقد كانت قريش لا تأكل الضب، وقد وُضع على مَائدة رسول الله فكره أن يأكل منه، وقال: ما هو بحرام ولكنه لم يكن من طعام قومي فأجدني أعافُه ولهذا فالوجه: إن كل ما لا ضر فيه ولا فساد ولا قذارة فهو مباح، وقد يكون مكروهًا اعتبارًا بمضرة خفيفة، فلذلك ورد النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع، ومحمله عند مالك في أشهر الروايات عنه، على الكراهة، وهو الذي لا ينبغي التردد فيه، وأي ضُر في أكل لحم الأسد، وكذلك إباحة أكل الخشاش والحشرات والزواحف البرية والبحرية، لاختلاف عوائِد الناس في أكلها وعدمه، فقد كانت جَرْم لا يأكلون الدجاج، وَفقعس يأكلون الكلب، فلا يحجر على قوم لأجل كراهية غيرهم مما كرهه ذوقه أو عادة قومه، وقد تقدم شيء من هذا في آية سورة المائِدة، فعلى الفقيه أن يقصر النظر على طبائِع المأكولات وصفاتها، وما جهلت بعض صفاته وحرمته الشريعة مثل تحريم الخنزير.